تقول الأخبار إن الرفات الواحدة والتسعين كانت، لعشرات السنين، في ”مقبرة الأرقام“! هل لنا من زمن آخر لا نمر فيه على نشرات الأخبار كرقم من الأرقام؟
***
تلاحقني صورة العجوز الذي انحنى يقبل جمجمة ابنه أو ابنته…
بصمت يبكي، هناك في وطن لا يرحمنا، ولا نرحمه. ما أقسى الصورة وما أتفه الكلمات. هل تخجل الرفات من دمعه؟ تعب الصراخ من الصراخ وارتعب البكاء فهرب، من إحمرار العيون وانتفاخها، إلى أن غطتها الجفون. ما أصعب أن نرى عجوزاً يبكي!
تلاحقني صورة العجوز الذي انحنى يقبل جمجة ابنه أو ابنته…
وتطل ظلالها عليّ كعناد الفدائي. تطل حتى في ظلمة العيون التي غطتها الجفون لتقول: ”هاأنذا قطعت طريقاً لأصل إلى نبع، فقطع الطريق علي الطريق، ووصلت إلى وطن ما زال بين أنياب الذئاب. ونحن أصبحنا نتفرج عليه عبر شاشات التلفاز، كما يشاهد الغرباء قصصنا، ونشير إلى ظلال تشبهنا خلف الصور التي تبثها الشاشات.“
***
تطل أمٌ، أطال العمر المكوث عندها فأتعبتها السنين، تلبس الأسود وفي يدها ثوب عروس لابنتها التي غابت لتتزوج من فلسطين. تزغرد الأم لفستان خال، إلا من رفات في تابوت، وتخنقها الزغاريد وتقول: ”ماذا فعلت بنا فلسطين؟ وماذا فعلنا بك يا فلسطين؟“
***
في عرس الموت هذا، تخجل رفات سبعة عشر فدائي، من السؤال عن الوجوه التي تعرفها... فلا وجوه تعرفها في استقبالها. وجوه يبحثون عنها، لكنها هناك خلف السياج، طردتها آلهة أرض كُتب أنها مقدسة. لا قداسة في القداسة. ترفع رفات أصغرهم عنها غطاء تابوتها وتنادي بين الجموع ” أمي، هل رأيتم أمي؟“ ”لا مكان للأمومة الآن، عد إلى الكفن كي نكمل الجنازة!“ يصرخ التابوت بوجه الرفات.
***
يصرخ شاب في وجه أمه ” صورة هذه الرفات لا تشبه صورة أبي المعلقة في الصالون، والذي لم أعرفه. قطعت سنواتي العشرين في انتظار أن أرى وجهه فأين أخذوا وجهه؟“ ترمي أمه صرخة في وجهه وتقول: ” أنا قطعت سنواتك العشرين ألهث في جسد قَبَرّتُه وأنا في العشرين!“ يسقط قرط من أذنها على الأرض ويصرخ بوجه الرفات: ” وأنا انتَظَرتُك في الليل كي تتغزل بـِقرط أَهدَيّتَها إياه ونسيت هي أن تلبسه عندما كنت في البيت، فلبسته في غيابك لعلك تعود... فلا حاجة بي الآن!“ تدوس الأقدام القرط وهي تشيع الرفات وتنظر إلى السماء.
***
تنهض الرفات من التوابيت لتأخذ وداعها الأخير وتسأل عن أخبار غابت عنها لعشرات السنين. تعود الرفات مطأطأة الرؤوس إلى توابيتها. وتدق على توابيتها فوق رؤوس حامليها وتقول: ”أسرعوا أسرعوا نريد أن نرتاح. الآن متنا، للتو، بعدما سمعنا كل هذه الأخبار!“ تحتضن التوابيت الرفات وتقول لها: ”كوني رحومة معهم! ما هم إلا بشر! ما هم إلا بشر!“
***
تلاحقني صورة العجوز الذي انحنى يقبل جمجة ابنه أو ابنته…
[نشر للمرة الأولى في جريدة "القدس العربي".]